تميم البرغوثي: نُبوءة السيدة
في قريتنا دير غسانة، في بني زيد من قضاء بفلسطين يحكون عن ليلة ماطرة أوائل الثمانينيات، هجم فيها جنود الاحتلال على سيدة منا في بيتها، الضابط الإسرائيلي المكلف باعتقال ولدين من أولادها الأربعة، قال لها ألبسيهما جيدا فلن تريهما بعد اليوم، كان الولدان في المدرسة الإعدادية.
قالت السيدة للضابط: راح أشوفهم، وراح يكبروا ويتجوزوا ويخلفوا وانت راح تقتل يا لعين الوالدين...
سأراهما وسيكبران ويتزوجان ويرزقان بالولد وأنت ستقتل يا لعين الوالدين...
بعد شهور أرسل الضابط الإسرائيلي إلى لبنان مع القوات الإسرائيلية التي اجتاحته، فقتل هناك. وروت لي السيدة الكريمة هذه القصة بعد عشرين سنة من وقوعها، في بيتها وأولادها حولها وأحفادها يلعبون في ساحة الدار...
وبالرغم من أن أهل القرية يحكون القصة من باب عجائب الصدف وغرائب الاتفاق، الا أن القصة كان يمكن ان تنتهي عند جواب السيدة للضابط، فجوابها يهزمه قُتل بعدئذ أو لم يُقتل
وصدقت نبوءتها أو لم تصدق. بل إن جوابها يهزمه أياً كان رده عليها، لأن القوي لا يكون الا في خيال الضعيف، او في خيال الإنسان الذي يظن أنه ضعيف. أول خطوة على طريق الخلاص من الضعف هي ألا ترى نفسك ضعيفا وألا ترى القوي قويا. فمن قال إن التعاون مع المحتل والتأدب معه سبيلنا لأننا ضعفاء فهو تحديدا من يضعفنا، ومن آمن أن الاحتلال أوهى من بيت العنكبوت ثم قاومه، قوته مقاومته كمصارع مدربه الأول هو الصراع ذاته.
وإن أحد أهم المراجع التي كنّا ندرسها ثم ندرسها في الجامعات في مادة العلوم الاستراتيجية، كان كتاب كارل فون كلاوزفتز، القائد العسكري البروسي الذي قاتل ضد نابليون في معارك عدة
ومنها معركته الكبرى الأخيرة في واترلو. عنوان الكتاب بسيط ومباشر "فوم كريغ"، "عن الحرب" وكثير من الاقتباسات الشهيرة المتداولة عن الحروب إلى يوم الناس هذا مأخوذ منه، كقوله إن الحرب ممارسة للسياسة بأساليب أخرى، أو قوله إن ثمة حالات تكون فيها قمة التهور قمة الحكمة، أو قوله العظيم: "الغازي دائما محب للسلام، إنه بالطبع يفضل أن يأخذ بلادنا بلا مقاومة". لكن ما يعنينا هنا قوله: إن الحرب لا يجوز اعتبارها منتهية إلا باتفاقية سلام تجبر على توقيعها حكومة الطرف المهزوم وحلفاؤها بما يضمن انكسار إرادتها وخضوعها، وحتى بعد توقيع الحكومات لاتفقايات السلام تلك فلا بد من أن تتغير إرادة الشعب المهزوم، وإلا فالحرب مستمرة ونتيجتها غير مضمونة.
فهو يعني أن المهزوم لا يكون مهزوماً إلا إذا أقر بأنه مهزوم. وهو إن لم يسلم بذلك فالحرب لم تنته بل خبت مؤقتاً فحسب..
إن الضابط الذي وقع مجازاً اتفاقيات سلام مع حكومات كثيرة، لم يوقع مثلها مع السيدة التي اعتقل أولادها، وقادته يعلمون أن نهاية طغيانهم ستبدأ منها وممن كان مثلها، فلنتذكر ذلك دائما انت وانا، نحن من يسمينا الناس مهزومين، ويسمون المتسلطين علينا من غزاة وطغاة منتصرين. نحن لم نهزم بعد، ولن نهزم إلا إذا اقتنعنا أننها مهزومون.
نحن رغم كل شيء أقوى بكثير مما نظن